الاثنين، 29 يوليو 2013

تتمة درس ليلة٢١

تتمة درس ليلة٢١

الجمع بين الصوم والاعتكاف:
لا ريب أن اجتماع أسباب تربية القلب بالإعراض عن الصوارف عن الطاعة أدعى للإقبال على الله تعالى، والتوجه إليه بانقطاع وإخبات؛ ولذلك استحب السلف الجمع بين الصيام والاعتكاف، حتى قال الإمام ابن القيم- رحمه الله-: "ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطرًا قط؛ بل قد قالت عائشة: لا اعتكاف إلا بصوم"
ولم يذكـر الله - سبحـانه- الاعتكاف إلا مع الصـوم، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم.
فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف: "أن الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية"اهـ.
واشتراط الصوم في الاعتكاف نُقِل عن ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهما-، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة، واختلف النقل في ذلك عن أحمد والشافعي.
وأما قول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف مفطرًا قط"؛ ففيه بعض النظر، فقد نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في شوال  ولم يثبت أنه كان صائمًا في هذه الأيام التي اعتكفها، ولا أنه كان مفطرًا؛ فالأصح أن الصوم مستحب للمعتكف، وليس شرطًا لصحته.


مع النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه:
اعتكف صلى الله عليه وسلم في العشر الأواسط؛ يلتمس ليلة القدر، ثم تبين له أنها في العشر الأواخر فاعتكفها .
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان من حين تمضي عشرون ليلة، ويستقبل إحدى وعشرين؛ يرجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه، ثم إنه أقام في شهر، جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم بما شاء الله، ثم قال: إني كنت أجاور هذه العشر، ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليبت في معتكفه، وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، في كل وتر، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين، قال أبو سعيد رضي الله عنه : مُطِرْنا ليلة إحدى وعشرين، فوكف المسجد في مصلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت إليه، وقد انصرف من صلاة الصبح، ووجهه مبتل ماء وطينًا"؛ فتحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وهذا من علامات نبوته.
ثم حافظ صلى الله عليه وسلم على الاعتكاف في العشر الأواخر، كما في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده . وفي العام الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم اعتكف عشرين يومًا أي: العشر الأواسط والعشر الأواخر جميعًا ؛ وذلك لعدة أسباب:
أولها: أن جبريل عارضه القرآن في تلك السنة مرتين ؛ فناسب أن يعتكف عشرين يومًا؛ حتى يتمكن من معارضة القرآن كله مرتين.
ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم أراد مضاعفة العمل الصالح، والاستزادة من الطاعات؛ لإحساسه صلى الله عليه وسلم بدنو أجله، كما فهم ذلك من قول الله تعالى: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبِكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كَانَ تَوَّابَاً) [ النصر: 1- 3] فإن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإكثار من التسبيح والاستغفار في آخر عمره، وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يكثر في ركوعه وسجوده من قول: "سبحانك اللهم، وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن 
ثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك شكرًا لله - تعالى - على ما أنعم به عليه من الأعمال الصالحة: من الجهاد، والتعليم، والصيام، والقيام…، وما آتاه من الفضل: من إنزال القرآن عليه، ورفع ذكره…، وغير ذلك مما امتن الله تعالى به عليه.
هذه- والله أعلم- أبرز الأسباب التي جعلته صلى الله عليه وسلم يعتكف عشرين يومًا في العام الذي قبض فيه.
وكان صلى الله عليه وسلم يدخل معتكفه قبل غروب الشمس، فإذا أراد - مثلاً -أن يعتكف العشر الأواسط دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي عشر، وإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي والعشرين.
أما ما ثبت في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ثم دخل معتكفه ، فإنما المقصود أنه دخل المكان الخاص في المسجد بعد صلاة الفجر، فقد كان يعتكف في مكان مخصص لذلك، كما ورد في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف في قبة تركية 
وكان صلى الله عليه وسلم يخرج رأسه وهو معتكف في المسجد إلى عائشة - رضي الله عنها - وهي في حجرتها، فتغسله وترجَّله  وهي حائض -كما جاء في الصحيحين ، وفي مسند أحمد أنه كان يتكئ على عتبة باب غرفتها، ثم يخرج رأسه، فترجله وفي ذلك دليل على أن إخراج المعتكِفِ بعض جسده من المعتَكَف لا بأس به، كأن يخرج يده أو رجله أو رأسه، كما أن الحائض لو أدخلت يدها - مثلاً - في المسجد فلا بأس؛ لأن هذا لا يعدُّ دخولاً في المسجد.
ومن فوائد هذا الحديث- أيضًا- أن المعتكَفِ لا حرج عليه أن يتنظف، ويتطيب، ويغسل رأسه، ويسرحه، فكل هذا لا يخل بالاعتكاف.
ومما وقع له صلى الله عليه وسلم في اعتكافه ما رواه الشيخان عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر، ثم دخل معتكفه، وإنه أمر بخبائه  فضرب؛ أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فأمرت زينب بخبائها فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخبائه فضرب، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر نظر فإذا الأخبية، فقال: آلبِرَّ تُرِدْن؟، فأمر بخبائه فقوض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان، حتى اعتكف في العشر الأول من شوال"ومعنى قوله: "آلبر تردن"؟ أي: هل الدافع لهذا العمل هو إرادة البر، أو الغيرة والحرص على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
والأظهر- والله أعلم- أن اعتكافه صلى الله عليه وسلم في شوال من تلك السنة بدأ بعد يوم العيد، أي في الثاني من شوال، هذا هو الأظهر، ويحتمل أن يكون بدأ من يوم العيد، فإن صح ذلك فهو دليل على أن الاعتكاف لا يشترط معه الصوم؛ لأن يوم العيد لا يصام.
ومما وقع له صلى الله عليه وسلم في اعتكافه ما رواه الشيخان - أيضًا- أن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد، في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة، مر رجلان من الأنصار، فسلَّما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : "على رِسْلِكُما  إنما هي صفية بنت حُيي"، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! وكبر عليهما. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم . وفي لفظ: يجري من الإنسان مجرى الدم. وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا. وفي لفظ: شرًا"
فمن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على صدق إيمان هذين الأنصاريين، وخشيته أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئًا؛ فيشكّا في الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك كفرًا، أو يشتغلا بدفع هذه الوسوسة؛ بَيَّن صلى الله عليه وسلم الأمر، وقطع الشك، ودفع الوسواس، فأخبرهما أنها صفية - رضي الله عنها-، وهي زوجته.
هذه القصـة مما وقع له في اعتكـافه صلى الله عليه وسلم وفيهـا من الدروس ما هو جدير بالتفصيـل، لولا خشية الاستطراد عن الموضوع الذي نحن بصدده.
 
ملحوظات حول الاعتكاف:
الأولى: أن بعض الباحثين ذهبوا إلى أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى.
والصواب أن الاعتكاف جائز في كل مسجد تُصلّى فيه الفروض الخمسة، قال الله تعالى: ( وَلاَ تُباشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدْ)[ البقرة: 187]؛ فدل عموم قوله ( في الْمَسَاجِدْ ): على أنه جائز في كل مسجد. ويستحب أن يكون في مسجد جامع؛ حتى لا يحتاج المعتكف إلى الخروج للجمعة.
وأما حديث: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة" فهو- على القول بصحته- مؤول، بمعنى أن أكمل ما يكون الاعتكاف في هذه المساجد -كما قال أهل العلم-، 

وإذا نذر المرء أن يعتكف في المسجد الحرام وجب عليه الوفاء بنذره، فيعتكف في المسجد الحرام. ولكن لو نذر -مثلاً- أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجوز له أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو في المسجد الحرام؛ لأن المسجد الحرام أفضل، ولو نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في المسجد الأقصى، أو في المسجد الحرام، أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهما أفضل من المسجد الأقصى.
فالخلاصة أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم : "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة": لا اعتكاف ينذر ويسافر إليه، وأن الاعتكاف يصح في كل مسجد، وقد أجمع الأئمة -خاصة الأئمة الأربعة- على صحة الاعتكاف في كل مسجد جامع، ولم يقل بعدم صحة الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أحد من الأئمة المعروفين المتبوعين، لا الأربعة، ولا العشرة، ولا غيرهم، وإنما نقل هذا عن حذيفة رضي الله عنه وواحد أو اثنين من السلف.
الثانية: أن بعض الناس يعدون الاعتكاف فرصة للخلوة ببعض أصحابهم وأحبابهم، وتجاذب أطراف الحديث معهم، وهذا ليس بجيد.
حقًا أنه لا حرج في أن يعتكف جماعة معًا في مسجد، فقد اعتكف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم معه، حتى لقد كانت إحداهن معتكفةً معه، وهي مستحاضة ترى الدم وهي في المسجد فلا حرج أن يعتكف الشخص مع صاحبه أو قريبه أو حبيبه أو صديقه، ولكن الحرج في أن يكون الاعتكاف فرصة للسمر والسهر، والقيل والقال، وما شابه ذلك. ولذلك قال الإمام ابن القيم - بعدما أشار إلى ما يفعله بعض الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة، ومجلبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم-، قال: "فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون "
الثالثة: أن بعض الناس يترك عمله، ووظيفته وواجبه المكلف به؛ لكي يعتكف، وهذا تصرف غير سليم؛ إذ ليس من العدل أن يترك المرء واجبًا ليؤدي سنة، فيجب على من ترك عمله الوظيفي واعتكف، أن يقطع الاعتكاف، ويعود إلى عمله.
 

اللهم اجعلنامن المقبولين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق