ليلة القدر
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
(حم وَالْكِتبِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرين فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِندِنَا إنَّا كُنَّا مُرْسِلين رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إنّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )[الدخان: ا- 6].
أنزل القرآن الكريم في تلك الليلة التي وصفها رب العالمين بأنها "مباركة"، وقد صح عن جماعة من السلف: منهم ابن عباس - رضي الله عنهما-، وقتادة، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم...؛ أن الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي ليلة القدر.
( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ): أي تقدر في تلك الليلة مقادير الخلائق على مدى العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والناجون والهالكون، والسعداء والأشقياء، والحاج والداج،والداج من يذهب لالاحج مثل الخدم وغيرهم. والعزيز والذليل، والجدب والقحط، وكل ما أراده الله تعالى في تلك السنة.
والمقصود بكتابة مقادير الخلائق في ليلة القدر- والله أعلم- أنها: تنقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما-:"إن الرجل يُرَى يفرش الفرش، ويزرع الزرع، وإنه لفي الأموات"، أي أنه كتب في ليلة القدر أنه من الأموات، وقيل: إن المعنى أن المقادير تبين في هذه الليلة للملائكة.
وفي سورة القدر يقول الله سبحانه وتعالى عن هذه الليلة العظيمة: ( إنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مٍنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَلُ الملائِكَةُ وَالْرُّوحُ فيِها بإِذْنِ رَبِهِم مِن كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ مَطْلَعِ الْفَجْرِ )[القدر: ا- 5]، فسماها الله تعالى ليلة القدر؛ وذلك لعظيم قدرها، وجلالة مكانتها عند الله - جل وعلا-، ولكثرة مغفرة الذنوب، وستر العيوب فيها، فهي ليلة المغفرة، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه"
وقيل: إنها سميت ليلة القدر؛ لأن المقادير تُقَدَّر وتكتب فيها.
وقال الخليل بن أحمد: إنما سميت ليلة القدر؛ لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها تلك الليلة، من (القدر) وهو التضييق، قال تعالى: {وَأَمّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } [الفجر: 16] أي: ضيق عليه رزقه.
قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } [القدر:2] تنويهًا بشأنها، وإظهارًا لعظمتها. { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر: 3] أي: خير مما يزيد على ثلاث وثمانين سنة- كما سبقت الإشارة إلى ذلك- وهذا فضل عظيم لا يقدر قدره إلا رب العالمين- تبارك وتعالى-.
تحري ليلة القدر:
يستحب تحريها في رمضان، وفي العشر الأواخر منه خاصةً، وفي الأوتار منها بالذات، أي ليالي: إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين. فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان" وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى"فهي في الأوتار أحرى وأرجى إذن.
وفي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامترضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحىرجلان من المسلمين، فقال: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة أي في الأوتار.
وفي هذا الحديث دليل على شؤم الخصام والتنازع، وبخاصة في الدين، وأنه سبب في رفع الخير وخفائه.
وليلة القدر في السبع الأواخر أرجى؛ ولذلك جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما - أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُرُوا ليلة القدر في المنام، في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها، فليتحرها في السبع الأواخر"
وهي في ليلة سبع وعشرين أرجى ما تكون، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد، ومن حديث معاوية رضي الله عنه عند أبي داود؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليلة القدر ليلة سبع وعشرين". وكونها ليلة سبع وعشرين هو مذهب أكثر الصحابة وجمهور العلماء، حتى إن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه كان يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين وأخرج ابن أبي شيبة عن زر أنه سئل عن ليلة القدر ، فقال : كان عمر وحذيفة وناس من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يشكّون أنها ليلة سبع وعشرين
ومن الأمور التي استنبط منها أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين: أن كلمة "فيها" من قوله تعالى: ( تَنَـزَّلُ المْلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا) [القدر: 4] هي الكلمة السابعة والعشرون من سورة القدر.
وبعض العلماء استدلوا على أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين بطريقة حسابية، وذلك أن كلمة "ليلة القدر"، تسعة أحرف، وقد ذكرت في السورة ثلاث مرات، فبِضرْب التسعة في الثلاث تكون النتيجة سبعًا وعشرين.
وهذا ليس عليه دليل شرعي، فلا حاجة لمثل هذه الحسابات، فبين أيدينا من الأدلة الشرعية ما يغنينا.
ومما يرجح أنها ليلة سبع وعشرين ما ورد : من أن رجلاً رآها ليلة سبع وعشرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها"
لكن كونها ليلة سبع وعشرين أمر غالب- والله أعلم- وليس دائمًا، فقد تكون –أحيانًا- ليلة إحدى وعشرين، كما جاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي سبق ذكره، وهو حديث متفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد صبيحة إحدى وعشرين في ماء وطين
ومما يتعلق بليلة القدر أنه يستحب فيها الإكثار من الدعاء، وبخاصة الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة- رضي الله عنها- حين قالت: "يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عَفُوٌّ تحب العفو فاعف عني"
اللهم اجعلنا من المقبولين
تتمة الدرس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق